Sunday, August 19, 2012

الثورات المعاصرة هي ثورات على الأنساق الثقافيّة الكلاسيكيّة - قراءة في تحول الأنساق من نسق الطاغية إلى نسق التحرّر



هي جملة ابتدائيّة معاصرة لم يكن لها في الماضيين القريب والبعيد أيّ محلّ في تاريخ شعوب الشرق وأدبيّاتها وقواعدها, لم يكن لها أيّ معنىً في قواميس اللغة ولا في الذواكر المسحوقة لشعوب كانت تئنّ تحت وطأة جور الأنظمة المفعمة بروح التشبّث بعروشٍ خالدةٍ مخلّدة, إلّا أنّها باتت الآن من فواتح الكَلِم,وخواتيم الأساطين.
"
الشّعب ُ يريدُ إسقاطَ النظام " هي آيةٌ اكتسبت قدسيّةً عميقةً بالمعنى الوجوديّ, أفرزتها إراداتٌ تنصّلت من كل الإسقاطات الأبديّة لسَطوَةِ التابو, لتنتعش تلك الإرادات بأنساغٍ مديدةٍ كانت قد خَطمَتها استكاناتِ عُصورٍ خلت, إنّ آية العصر تلك النّاسخة لكل الآيات السابقة, استمدّت قدرتها وطاقتها من جمعها لمفرداتٍ كان يستحيلُ تجاذبها في فضاءاتٍ طوطميّة متصلّبة, بل كانت قد اكتسبت خاصيّة التنافر بفعل ميكانيزما الخوف المزمن.
الآن وبالعودة إلى الذات اكتشفت الشّعوب - المضطهدة - رغبةً جامحةً لتحقيق تحوّلها من الزيف إلى الحقيقة, من الكبت إلى التحرّر, والخلاص من شرنقة الرعيّة والقطيع والتحول إلى شعبً يصنع إرادته الحرّة في الوجود, من غير تحليق في سموات السلطان, ومن دون تغريدٍ في أقفاصه الصدئة.
إنّ العوامل التاريحيّة - السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة - مجتمعةً كانت كفيلة بخلق أفقٍ معرفيٍّ عصريّ مغايرٍ عن الأفق المعرفي الذي كان سائداً في الحقب السابقة, هذا النضوج في الأفق المعرفي - الجديد - الذي تخثّر في الوعي الجمعي للنُّظم الاجتماعية هو ضرورةٌ حتميّة لولادة نسقٍ ثقافيّ واجتماعيّ جديدين, لأنّ كلا الأنساق التقليديّة السابقة بدءاً من نسق المقدّس/المحرّم ومروراً بنسق الفحولة/الذكورة وانتهاءاً بنسق الطّاغية وما يبنهما من أنساقٍ و بنىً متحجّرة... كلّها لم تستطع إشباع الأفق المعرفيّ الجديد, فضلاً عن أنّ هذا الأخير لم يعُد يسلّم بتلك الأنساق التي باتت هشّةً وغارقة في تكرار ذاتها, ومحدثةً المزيد من المآسي.
الآن لتنوقف عند حقبتين تاريخيّتين من تاريخ شرق المتوسّط وجنوبه, ولنرى أية آفاقٍ معرفيّة كانت هي السائدة ؟ وأيّة أنساق أنتجت ؟
الحقية الأولى هي حقبة ماقبل منتصف القرن التاسع عشر الميلادي, وكان الأفق المعرفيّ السائد في تلك الحقبة أفقاً لاهوتيّا غيبيّاً اتّكاليّاً, خارج الانسان,لم يلامس حريّة الانسان وحقوقه إلّا بمقدار وضاعته وعبوديّته أمام السلطان الذي هو ظلٌّ للسماء و- ساقطٌ - منها, والنسق المُنتَج من هكذا أفق هو نسقٌ سلطويّ-عبودي, يحرّم الخروج على السلطان حتّى ولو كان جائراً.
أمّا الحقبة الثانية وهي الّتي تلي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي وحتّى أمسنا القريب,فإنّ الأفق المعرفيّ الّذي كان سائداً فيه لم يكن ليستطيع الخروج من جلابيب القرون الأولى وذلك لسببً لا يخفى على فطين, وهو متانة البتى الثقافيّة و الأنساق الكلاسيكيّة التي كانت مستوطنةً في تلافيف الأدمغة وأعماق الذوات,هذا الافق الأخير الذي كان من المفترض وبحسب مُنظّري المرحلة أن ينتج نَسَقَه الثقافيّ المتّجه نحو الحداثة والديمقراطيّة والعصرَنة والتحرّر,كان - على العكس تماماً - أفقاً ضبابيّاً لم ينتج إلّا فقاعاتٍ باسم التحرّر وهالاتٍ نهضويّةٍ باسم الحداثة, فكان مهداً من سندسٍ نمَا فيه الاستبداد وترعرع, وبالتالي كان كالسّابقات من الآفاق المعرفيّة المولّدة للطاغية, وهذا يحملُ حَوبَتَهُ الكُبرى مفكّروا هذه الحقبة الذين جعلوا من الفكر القوموي - المؤدلج دينيّاً - أساسَهم النظري ومَرجِعَهم الفكري, وغالوا في ذلك إلى أن صنعوا نسقَ الديكتاتور/ الفَحل من خلال تغذيتهم للفردانيّة والتفرّد اللتان تقودان بشكلٍ حتميّ إلى الشموليّة, ولم يؤسّسوا للفرديّة التي تقود بالضرورة إلى التشاركيّة ضمن المنظومة الاجتماعيّة.
كلّ هذا أدى إلى خلق نوع من الارهاب الفكري والثقافي المُمَارَسَين على الفرد والجماعة على حدٍّ سواء وذلك بتبريكاتٍ قدسيّة من السماء- الحاضنة الأولى للتفرّد والوحدانيّة من خلال إسقاط ظلالها التسعة والتسعين على الأرض المبتلية بها.
بعد هذه القرون الطوال من ثقافة الوهم والخديعة, تخرج اللّعبة من أيدي منظّري العماء ومتفقّهي الفكر المُطَحلَب,وتسقط أنساقٌ كانت قد غاصت في الأعماق بجذورها, الإرادة هي التي تقتلعها, وتصبح مجاميع المضطهدين والمقهورين هي مستلم(ة) الزمام وقائد(ة) الدفّة.
إذن " الشّعبُ يريدُ إِسقاطَ النّظام " هو نتاج تراكميّة طويلة في الأفق المعرفيّ, فكان هذا التركيب الذي هو بداية أو لِنَقُل تأسيسٌ لمشروعِ نسقٍ ثقافيّ اجتماعيّ جديد, يدحر كلّ الأنساق الكلاسيكيّة الّتي ولّفتها أدمغة البلاطات المتملّقة, أمّا النسق الجديد فهو الذي نسجته إرادة الشارع بمدادٍ أحمر.
أصبح "الشّعبُ" هو المبتدأ, بعد ان كان منتهياً بضروبٍ جمّةٍ من آيديولوجيّاتٍ ميكافيليّة أنتجَها عَماءُ الخطابات المزيّفة للقوميّة البدائيّة, لتدجين الوعي الجَمعي بما لا يخدم إلا المنتجين لهاتيك الآيديولوجيّات, وكذلك لتعليب الفكر وتغليفه بمنطق المجابهة والممانعة, وتقديمه -اي الفكر-جاهزاً على مذبح الإرادة والحريّة والكرامة.
خرج الشعب من كونه لفظاً ورمزاً صوتيّاً دالّاً حاملاً للّاشيء, وعاد إلى كينونته الحقيقيّة وأصبح مدلولاً مفعماً بحقيقة جوهره,
أصبح "الشّعبُ" مرفوعاً بفعل الإرادة,وبفعل مراجعة ذاته وترتيب أولويّاته,بعد أن كان مكسوراً ومجروراً بجريرَة من كان يسوقُه, وهو " يُريدُ" أيضاً,بتصريفه الحاضر, وعندما ياتي فعل الإرادة بهذه الصّيغة فهو الإصرار عينه على تلك الإرادة, وهو انقلابٌ على كلّ صيغ التغنّي بالغابرات من الأمجاد, فليس ثمّة حيّزٌ لتسويفٍ ولا امتثال بعد الآن لنحيبٍ على طلل, هو الحاضر- بعد الإفاقة من خَدَر الماضي- الذي يقطع كلّ ماهو متفسّخٌ من حبائل الأمس الأسود, هو الحاضر الذي يربط آمال الغد بأوصال الإرادة ويجرّها لفضاءات الديمومة والاستمراريّة.
يركّز الشعب في إرادته على عمليّة ال"إسقاط" لطالما كانت كلمة البناء الواقفة على النقيض تمثّلُ فخاخاً من قبل النظام للهيمنة على الشّعب, فالنظام لم يبني إلا قطيعاً مهزوزاً مهزوماً من الكائنات البشريّة تسبّح بحمده صباحَ مساء, ولم يبني لنفسه إلّا نسقاً سلطويّاً, من خلاله يعبّر عن كافّة عقده ومركّبات نقصه, ويمارس ساديّته الرعناء على ذلك القطيع- الشعب لاحقاً - الذي هو أساساً كان مخلوقاً في مختبرات استنساخه.
إذن بعد أن امتلك الشعب الإرادة, أصبح " يُريدُ " ولكنّه لم يعد يريد البناء بل يريد ال"إِسقاطَ" بمصدره الصّريح المباشر غيرِ القابل لأيّ تأويل, والإسقاط عمليّة تتم من الأعلى إلى الأسفل, تبدأ بكسر الكلاسيكيّة في مفهوم الدولة وتنتهي بفتحٍ - مبين -لكلّ آفاق المدنيّة والعصرنة.
والمستهدف من عملية الإسقاط هذه هو " النظام " الرّاعي الاوحد للجهل والتخلف والهيمنة.
إنّ ما يريد الشعب إسقاطه هو نسقُ العتمة المستفحل في ثنيّات قرون الاستعباد الطويلة, إنّ ما يريد الشعب إسقاطه هو نسق الإقصاء والتحييد المتمثّل بالدولتيّة ومفهوم اللون الواحد.
هذا النسق الجديد هو خروجٌ على هرميّة الدولة الكلاسيكيّة لصالح التحوّل من البناء العمودي إلى البناء الأفقي والتأسيس لجمهوريّةٍ ديمقراطيّةٍ قوامُها مؤسّساتٍ مدنيّة.

بهذه التصاعديّة لدلالات مشروع النسق الثقافي والاجتماعي الجديدين, بدءاً من "الشعب" المستعيد لقيمته الدلاليّة ومروراً بالفعل "يريد" الحاضر الماثل المتجسّد, والمتجاوِز لكلّ الازمنة الاعتباطيّة الأخرى, ووصولاً إلى "إسقاط النظام" بإيقاعه المتصاعد المنسجم, يمكن تلمّس عمق الدلالات في هذا النسق -المُعلَن- الذي سيصبح هو السائد في خطاب الوعي, واللّصيق بالتطلّعات, على العكس من الأنساق السابقة كلّها الموسومة بالإيحائيّة والإضمار والقائمة على حشد الآيديولوجيا ديماغوجيّاً لقتل العقلنة في كلّ خطاب.

أحمد يوسف

No comments:

Post a Comment